تعليقًا على المادة 23 من حقوق الإنسان

   العمل حقّ مقدّس لكلّ قادر، لأنّ الإنسان إن لم يعمل لا يستطيع تحصيل العيش الذي بدونه يكون مصيره إمّا الموت وإمّا الاضطرار إلى الاتّكال على الغير، وفي ذلك خفض لكرامته ومهانة لشخصيّته وإضعاف لمساعديه ومنقذيه من الجوع والهلاك. وهل على وجه الأرض كائن لا يعمل، ليبرّر كسل الإنسان وقعوده عن العمل؟

   انظر إلى النملة النشيطة كيف تدأب ليلها ونهارها، والنحلة تبكّر في سعيها جادّة، وغيرها من المخلوقات ترى أنّها المثال الحيّ الدّال على أنّ العمل حقّ طبيعيّ ليس فقط للإنسان، هذا الحيوان العاقل الناطق، بل لجميع الحيوانات وسائر المخلوقات من كبير وصغير.

   ولكنّ هذا العمل لا يجب أن يفرض فرضًا وقسرًا على المرء، بل يجب أن يختاره بمحض إرادته وحرّيته لأنّ أيّ عمل يساق إليه صاحبه سوقًا، بدون دافع داخليّ، ومن غير رغبة وعقيدة، لا يمكن أن يكون فيه إبداع وإتقان وجمال، وبالنتيجة لا تخرج منه الثمرة التي تشتهى ولا الفائدة التي يبتغيها العامل نفسه، ولا صاحب العمل ولا المجتمع.

   وكلّ عامل له الحقّ بأجر يتلاءم مع العمل الذي يؤدّيه، ولا يجوز لربّ العمل أن ينتقص هذا الأجر ولا أن يكلّف العامل فوق وسعه فيرهق جسده ويعرّضه للفناء والمرض لأنّه يخالف مبدأ العدل السماويّ والإنساني إن فعل.

   وعلى الدولة أن تمنع العامل من البطالة، لأنّها مخالفة للطبيعة العاملة التي لا تنام مخلوقاتها إلّا لتستيقظ أنشط ممّا كانت قبل سباتها، ولأنّ العاطل عن العمل معرّض لأن ينساق إلى ارتكاب الجرائم المفسدة للمجتمع والعاملة على تفكيكه وإبادته.

ولا يكفي أن يجازى العامل على عمله، بل على سيّد العمل أن لا يجعل تمييزًا بين عمّاله الذين يؤدّون عملًا واحدًا، لأنّ عمله، عدا أنّه مخالف لروح المساواة، يخلق في قلب العامل روح الحسد، الحسد المذموم الذي يؤدّي إلى إضعاف العمل وعرقلة الإنتاج. والأجرة التي يتقاضاها أيّ عامل أو صانع يجب أن تكفي لتأمين حياة عائلته أيضًا حتّى لا يحتاج إلى السؤال والاستجداء لما في ذلك من مذلّة وخفضٍ لكرامته ودافع إلى الحقد. وعلاوة على الأجر الذي يتقاضاه العامل ليعيش وتعيش عائلته ويؤمّن لها الملبس والمسكن الصحيّ اللّائق بالإنسان يجب أن يؤمّن له نظام العمل في كلّ بلد، حاجاته وحاجات أولاده في حالات المرض والعجز والشيخوخة والوفاة. وهذه الناحية مهمّة جدًّا إذ إنّ الضمانة للمستقبل تجعل الشخص يعمل بإخلاص ونشاط، بعيدًا عن الهموم ووساوس العوز والخوف من الذلّ، وتخلق الطمأنينة في النفوس والطمأنينة تميل بالمرء إلى حبّ السلام ومحبّة الناس والبعد عن المشاكل وتجنّب القتال والنزاع.

   وفي رأيي أنّه ليس أدعى إلى السلم من مثل هذا الضمان الاجتماعي لأنّ الإنسان إذا ضمن له العيش كلّ حياته وأمّن على مستقبل أولاده فلا يطمع في جمع مال لا يحتاج إليه، وهو يعلم أنّه سائر إلى الموت يومًا لا يأخذ معه إلى القبر منه شيئًا. وليس هناك ما يخلق في نفس الإنسان الطمع والجشع وحبّ الاحتيال على الكسب بشتّى الطرق، مثل الخوف على المستقبل ولا يوجِد رضى للنفوس مثل ذلك الضمان الاجتماعيّ الذي يجب أن تحقّقه جميع الدول لأبنائها فتبعدهم عن حظائر الدعوات الهدّامة والفوضى.

   وأمّا حقّ العمّال في تكتّل نقابيّ فهو ممّا يساعد على حسن الدفاع عن حقّه. إذ إنّ ذلك التكتّل يخلق أولًا قوّة يخافها ربّ العمل فيمتنع عن الإتيان بما فيه حيف على العمّال وهضم حقوقهم الماديّة والمعنويّة، ثمّ إنّه يساعد فوق ذلك على النظام وحسن القيام بالواجب ومعرفة الصالح والطالح والنافع والضّار. فيسهل العمل وينظّم بقانون نقابيّ ويتأتّى من جرّائه منفعة الخادم والمستخدم والصانع والمستصنع.

                                                                                                           

                               الأستاذ يوسف س. نويهض

                            البعثة العلمانيّة الفرنسيّة - بيروت